فصل: سئل رحمه الله عن قوله‏:‏ ‏(‏ما أصر من استغفر)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

وأيضًا فمما يستغفر ويتاب منه ما في النفس من الأمور التى لو قالها، أو فعلها عذب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏[‏البقرة 284‏]‏‏.‏ فهو يغفر لمن يرجع عما في نفسه فلم يتكلم به ولم يعمل كالذي همّ بالسيئة ولم يعملها، وإن تركها لله كتبت له حسنة، وهذا مما يستغفر منه ويتوب، فإن الاستغفار والتوبة من كل ما كان سببا للذم والعقاب، وإن كان لم يحصل العقاب ولا الذم، فإنه يفضي إليه فيتوب من ذلك، أي يرجع عنه، حتى لا يفضي إلى شر فيستغفر الله منه، أي يطلب منه أن يغفر له فلا يشقيه به، فإنه وإن لم يعاقب عليه فقد ينقص به، فالذي يهم بالسيئات، وإن كان لا يكتب عليه سيئة، لكن اشتغل بها عما كان ينفعه فينقص بها عمن لم يفعلها واشتغل بما ينفعه عنها، وقد بسطنا في غير هذا الموضع؛ أن فعل الإنسان وقوله، إما له وإما عليه، لا يخلو من هذا أو هذا، فهو يستغفر الله ويتوب مما عليه، وقد يظن ظنون سوء باطلة، وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها، استغفر الله وتاب، وظلمه لنفسه يكون بترك واجب، كما يكون بفعل محرم، فقوله تعالى ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏النساء 110‏]‏ من عطف العام على الخاص وكذلك قوله ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران 135‏]‏‏.‏ وقد قيل في قوله تعالى ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران 135‏]‏ قيل الفاحشة‏:‏ الزنا وقيل كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها، قيل هو‏:‏ فاحشة أيضًا وقيل هى الصغائر‏.‏

وهذا يوافق قول من قال‏:‏ الفاحشة هي الكبيرة، فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة، ومن قال‏:‏ الفاحشة الزنا، يقول ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات، وقيل الفاحشة‏:‏ الزنا وظلم النفس ما دونه، من اللمس والقبلة والمعانقة، وقيل‏:‏ هذا هو الفاحشة، وظلم النفس‏:‏ المعاصى وقيل الفاحشة‏:‏ فعل وظلم النفس، قول والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام، يتناول كل ذنب‏.‏

وفى الصحيحين أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاءًا أدعو به في صلاتي فقال ‏(‏قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏)‏‏.‏

والتحقيق أن ‏[‏ظلم النفس‏]‏ جنس عام يتناول كل ذنب، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال‏:‏ يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏)‏، / وفي صحيح مسلم، وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استفتاحه‏:‏ ‏(‏اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت‏)‏‏.‏

وقد قال أبو البشر وزوجته‏:‏ ‏{‏قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏، وقال موسى ‏:‏‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏، وقال ذو النون ـ يونس ـ ‏:‏‏{‏لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، وقالت بلقيس‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏44‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عن أهل القرى المعذبين ‏:‏‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏‏[‏هود‏:‏101‏]‏، وأما قوله‏:‏ ‏{‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏147‏]‏، فقد قيل‏:‏ إن الذنوب هي الصغائر، والإسراف هو الكبائر‏.‏

و‏[‏التحقيق‏]‏ أن ‏[‏الذنوب‏]‏ اسم جنس، و‏[‏الإسراف‏]‏ تعدي الحد، ومجاوزة القصد، كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم، /والإسراف كالعدوان، كما في قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏145‏]‏، ومجاوزة قدر الحاجة، فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله، فهذا كله ذنب، كالذي يرضى لنفسه، ويغضب لنفسه، فهو متبع لهواه، و‏[‏الإسراف‏]‏ كالذي يغضب لله، فيعاقب بأكثر مما أمر الله‏.‏ والآية في سياق قتال المشركين، وما أصابهم يوم أحد‏.‏

وقد أخبر عمن قبلهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏146‏]‏، وقد قيل على الصحيح، المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون، ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏ الآية‏.‏

فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها‏.‏ والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء‏.‏ فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء 33‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان 67‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف 31‏]‏‏.‏ فالإسراف مجاوزة الحد‏.‏ هذا آخر ما كتبته هنا‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله‏:‏

الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه؛ إلى الفعل المحبوب من العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل ‏;‏ فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله، وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ‏;‏ بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية‏.‏

وقد ثبتت‏:‏ دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد، والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم‏.‏ فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين؛ تذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه‏.‏ والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول‏:‏ لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول‏:‏ أستغفر الله‏.‏

فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين‏.‏ وقال‏:‏ إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب، خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس ‏[‏عيون‏]‏ الخفافيش بالنهار‏.‏ فاحذر مثل هؤلاء وعليك بصحبة أتباع الرسل، المؤيدين بنور الهدى، وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية العالمين العاملين ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏[‏المجادلة 22‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع؛ فمن أحس بتقصير في قوله، أو عمله، أو حاله، أو رزقه ، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص‏.‏ وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان، فعليه بالدعاء لهم والاستغفار‏.‏ قال حذيفة بن اليمان للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن لي لسانًا ذربًا على أهلي‏.‏ فقال له ‏:‏‏(‏أين أنت من الاستغفار ‏؟‏ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة‏)‏‏.‏

 وسئل رحمه الله

عن قوله‏:‏ ‏ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم والليلة سبعين مرة‏)‏‏.‏ هل المراد ذكر الاستغفار باللفظ ‏؟‏ أو أنه إذا استغفر ينوي بالقلب أن لا يعود إلى الذنب ‏؟‏ وهل إذا تاب من الذنب، وعزم بالقلب أن لا يعود إليه، وأقام مدة ثم وقع فيه، أفيكون ذلك الذنب القديم يضاف إلى الثاني ‏؟‏ أو يكون مغفورًا بالتوبة المتقدمة ‏؟‏ وهل التائب من شرب الخمر ولبس الحرير يشربه في الآخرة ‏؟‏ ويلبس الحرير في الآخرة ‏؟‏ والتوبة النصوح ما شرطها ‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ بل المراد الاستغفار بالقلب مع اللسان، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث الآخر ‏:‏‏(‏لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار‏)‏ فإذا أصر على الصغيرة صارت كبيرة، وإذا تاب منها غفرت‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ‏}‏‏[‏آل عمران 135‏]‏ الآية‏.‏ وإذا تاب توبة صحيحة غفرت ذنوبه، فإن عاد إلى الذنب فعليه أن يتوب أيضًا‏.‏ وإذا تاب قبل الله توبته أيضًا‏.‏

وقد تنازع العلماء في التائب من الكفر‏.‏ إذا ارتد بعد إسلامه ثم تاب بعد الردة وأسلم، هل يعود عمله الأول ‏؟‏ على قولين مبناهما أن الردة هل تحبط العمل مطلقا أو تحبطه بشرط الموت عليها ‏؟‏‏.‏

فمذهب أبي حنيفة ومالك أنها تحبطه مطلقا، ومذهب الشافعي أنها تحبطه بشرط الموت عليها، والردة ضد التوبة، وليس من السيئات ما يمحو جميع الحسنات إلا الردة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا‏}‏ ‏[‏التحريم 8‏]‏‏.‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏تَوْبَةً نَّصُوحًا‏}‏ أن يتوب ثم لا يعود فهذه التوبة الواجبة التامة‏.‏ ومن تاب من شرب الخمر ولبس الحرير فإنه يلبس ذلك في الآخرة كما جاء في الحديث الصحيح ‏:‏‏(‏من شرب الخمر ثم لم يتب منها حرمها‏)‏‏.‏ وقد ذهب بعض الناس كبعض أصحاب أحمد‏:‏ إلى أنه لا يشربها مطلقًا وقد أخطئوا الصواب الذي عليه جمهور المسلمين‏.‏

 

وسئل عن

اليهودي أو النصراني إذا أسلم‏.‏ هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام ‏؟‏

فأجاب‏:‏ - إذا أسلم باطنًا وظاهرًا غفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع، وأما الذنوب التي لم يتب منها مثل أن يكن مصرًا على ذنب، أو ظلم، أو فاحشة، ولم يتب منها بالإسلام، فقد قال بعض الناس‏:‏ أنه يغفر له بالإسلام‏.‏ والصحيح‏:‏ أنه إنما يغفر له ما تاب منه‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل‏:‏ ‏(‏أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ‏؟‏ فقال‏:‏ من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية‏.‏ ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر‏)‏‏.‏ وحسن الإسلام أن يلتزم فعل ما أمر الله به، وترك ما نهي عنه‏.‏ وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها‏.‏ وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ‏;‏ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص ‏:‏‏(‏أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله‏)‏ فإن اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر‏)‏ أي‏:‏ إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب، فإنه يؤاخذ بالأول والآخر‏.‏ وهذا موجب النصوص والعدل، فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب، ولم يجب أن يغفر له غيره، والمسلم تائب من الكفر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة 5‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال 38‏]‏‏.‏ أي إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف‏.‏

فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه‏.‏ من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه‏.‏ وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر‏.‏ والله أعلم‏.‏

آخر المجلد الحادي عشر‏.‏